الأحد، نوفمبر 01، 2009

تعامل الإمام حسن البنا مع القضايا الخلافية .

الكاتب : فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي .

والإمام الشهيد حسن البنا عنى أول ما عنى بتصحيح فهم الإسلام لدى المسلمين، وإعادة ما حذف منه على أيدي المتغربين والعلمانيين، فقد أرادوه عقيدة بلا شريعة، ودينا بلا دولة، وحقا بلا قوة، وسلاما أو استسلاما بلا جهاد، وأراده هو كما أراده شارعه عقيدة وشريعة، ودينا ودولة، وحقا وقوة، وسلاما وجهادا، ومصحفا وسيفا . وبذل جهدا كبيرا ليبين للناس : أن السياسة جزء من الإسلام، وأن الحرية فريضة من فرائضه، كما وجه عنايته وجهوده لتكوين جيل مسلم جديد رباني الغاية، إسلامي الوجهة، محمدي الأسوة، جيل يفهم الإسلام فهما دقيقا، ويؤمن به إيمانا عميقا، ويترابط عليه ترابطا وثيقا، ويعمل به في نفسه، ثم يعمل ويجاهد لتوجيه النهضة إليه، وصبغ الحياة به . وفي سبيل هذه الغاية يريد أن يجمع ولا يفرق، وأن يوحد ولا يشتت، ولهذا لا يثير الموضوعات التي من شأنها أن تمزق الصف، وتفرق الكلمة، وتقسم الناس شيعا وأحزابا، وحسبه أن يجتمع الناس على الأساسيات والأصول الكلية للإسلام.

وقد حكى في مذكراته موقفا فيه عبرة يدل على وعيه المبكر وهو في أول العشرينات من عمره بقضية الوحدة وضرورة تجميع أبناء الأمة على أمهات العقائد والشرائع والأخلاق، وتجنب الخلافات الفرعية التي لا تنتهي.

فقد كانت هناك زاوية (مسجد صغير ) يلقي فيها الأستاذ دروسه، وفيها يقول : "كانت هذه الزاوية الثانية هي الزاوية التي بناها الحاج مصطفى تقربا إلى الله تبارك وتعالى، وفيها اجتمع هذا النفر من طلاب العلم يتدارسون آيات الله والحكمة في أخوة وصفاء تام. ولم يمض وقت طويل حتى ذاع نبأ هذا الدرس، الذي كان يستغرق ما بين المغرب والعشاء، وبعده يخرج إلى درس القهاوي حتى قصد إليه كثير من الناس ومنهم هواة الخلاف وأحلاس الجدل وبقايا الفتنة الأولى.

وفي إحدى الليالي شعرت بروح غريبة، روح تحفز و فرقة، ورأيت المستمعين قد تميز بعضهم من بعض، حتى في الأماكن، ولم أكد أبدأ حتى فوجئت بسؤال : ما رأي الأستاذ في مسألة التوسل؟ فقلت له : "يا أخي، أظنك لا تريد أن تسألني عن هذه المسألة وحدها، ولكنك تريد أن تسألني كذلك في الصلاة والسلام بعد الأذان، وفي قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، وفي لفظ السيادة للرسول صلى الله عليه وسلم في التشهد، وفي أبوي النبي صلى الله عليه وسلم، وأين مقرهما؟ وفي قراءة القرآن وهل يصل ثوابها إلى الميت أو لا يصل؟ وفي هذه الحلقات التي يقيمها أهل الطرق وهل هي معصية أو قربة إلى الله"؟ وأخذت أسرد له مسائل الخلاف جميعا التي كانت مثار فتنة سابقة وخلاف شديد فيما بينهم، فاستغرب الرجل، وقال : نعم أريد الجواب على هذا كله!

فقلت له : يا أخي، إني لست بعالم، ولكني رجل مدرس مدني أحفظ بعض الآيات، وبعض الأحاديث النبوية الشريفة وبعض الأحكام الدينية من المطالعة في الكتب، وأتطوع بتدريسها للناس. فإذا خرجت بي عن هذا النطاق فقد أحرجتني، ومن قال لا أدري فقد أفتى، فإذا أعجبك ما أقول، ورأيت فيه خيرا، فاسمع مشكورا، وإذا أردت التوسع في المعرفة، فسل غيري من العلماء والفضلاء المختصين، فهم يستطيعون إفتاءك فيما تريد، وأما أنا فهذا مبلغ علمي، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فأخذ الرجل بهذا القول، ولم يجد جوابا، وأخذت عليه بهذا الأسلوب، سبيل الاسترسال، وارتاح الحاضرون أو معظمهم إلى هذا التخلص.

ولكني لم أرد أن تضيع الفرصة فالتفت إليهم وقلت لهم : "يا إخواني، أنا أعلم تماما أن هذا الأخ السائل، وأن الكثير من حضراتكم، ما كان يريد من وراء هذا السؤال إلا أن يعرف هذا المدرس الجديد من أي حزب هو؟ أمن حزب الشيخ موسى أو من حزب الشيخ عبد السميع؟ !

وهذه المعرفة لا تفيدكم شيئا، وقد قضيتم في جو الفتنة ثماني سنوات وفيها الكفاية . وهذه المسائل اختلف فيها المسلمون مئات السنين ولا زالوا مختلفين والله تبارك وتعالى يرضى منا بالحب والوحدة ويكره منا الخلاف والفرقة، فأرجو أن تعاهدوا الله أن تدعوا هذه الأمور الآن وتجتهدوا في أن نتعلم أصول الدين وقواعده، ونعمل بأخلاقه وفضائله العامة وإرشاداته المجمع عليها، ونؤدي الفرائض والسنن وندع التكلف والتعمق، حتى تصفو النفوس، ويكون غرضنا جميعا معرفة الحق لا مجرد الانتصار للرأي، وحينئذ نتدارس هذه الشئون كلها معا في ظل الحب والثقة والوحدة والإخلاص، وأرجو أن تتقبلوا مني هذا الرأي ويكون عهدا فيما بيننا على ذلك ". وقد كان، ولم نخرج من الدرس إلا ونحن متعاهدون على أن تكون وجهتنا التعاون وخدمة الإسلام الحنيف، والعمل له يدا واحدة، وطرح معاني الخلاف، واحتفاظ كل برأيه فيها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

واستمر درس الزاوية بعد ذلك بعيدا عن الجو الخلافي فعلا بتوفيق الله، وتخيرت بعد ذلك في كل موضوع معنى من معاني الأخوة بين المؤمنين، أجعله موضوع الحديث أولا تثبيتا لحق الإخاء في النفوس، كما أختار معنى من معاني الخلافيات، التي لم تكن محل جدل بينهم والتي هي موضع احترام الجميع وتقدير الجميع، أطرقه وأتخذ منه مثلا لتسامح السلف الصالح رضوان الله عليه، ولوجوب التسامح واحترام الآراء الخلافية فيما بيننا.

وأذكر أنني ضربت لهم مثلا علميا فقلت لهم : أيكم حنفي المذهب؟ فجاءني أحدهم فقلت : وأيكم شافعي المذهب؟ فتقدم آخر، فقلت لهم : سأصلي إماما بهذين الأخوين فكيف تصنع في قراءة الفاتحة أيها الحنفي؟ فقال : أسكت ولا أقرأ، فقلت: وأنت أيها الشافعي ما تصنع؟ فقال : أقرأ ولابد . فقلت : وإذا انتهينا من الصلاة فما رأيك أيها الشافعي في صلاة أخيك الحنفي؟ فقال : باطلة، لأنه لم يقرأ الفاتحة وهي ركن من أركان الصلاة، فقلت : وما رأيك أنت أيها الحنفي في عمل أخيك الشافعي؟ فقال : لقد أتى بمكروه تحري ما، فإن قراءة الفاتحة للمأموم مكروهة تحريما . فقلت : هل ينكر أحدكما على الآخر؟ فقالا : لا، فقلت للمجتمعين : هل تنكرون على أحدهما؟ فقالوا : لا، فقلت : "يا سبحان الله ! يسعكم السكوت في مثل هذا وهو أمر بطلان الصلاة أو صحتها ولا يسعكم أن تتسامحوا مع المصلي إذا قال في التشهد : اللهم صل على محمد، أو اللهم صل على سيدنا محمد، وتجعلون من ذلك خلافا تقوم له الدنيا وتقعد "، وكان لهذا الأسلوب أثره فأخذوا يعيدون النظر في موقف بعضهم من بعض، وعلموا أن دين الله أوسع وأيسر من أن يتحكم فيه عقل فرد أو جماعة، وإنما مرد كل شيء إلى الله و رسوله وجماعة المسلمين وإمامهم، إن كان لهم جماعة وإمام".

هناك تعليق واحد:

  1. رحم الله شهيد العلماء الشيخ حسن البنا وأسكنه فسيح جناته اللهم آمين.

    وبارك الله في شيخنا الجليل الدكتور يوسف القرضاوي، كذلك أود ان أضيف اسم الدكتور محمد سعيد البوطي حفظهم الله لهذه القائمة والموضوع النبيل.

    بارك الله فيك ونفع بك الأمة الإسلامية العربية

    ردحذف

أشكرك على المشاركة ,سيتم نشر التعليق بعد تدقيق مضمونه .
(مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)